لا غنـى عنها فـي الأطباق الرمضانيـة

توابل فواحة في رحلة البحث عن «بنَّة» و”ريحة زمان”

استطلاع: امينة جابالله

«راس الحانوت» يتربّـــع على عـرش التوابـل فـي المطبـخ الجزائري

 تعرف أغلب العائلات الجزائرية خلال الشهر الفضيل حركية دؤوبة لأسواق التوابل لاختيار الأجود والأصلي والصحي، ناهيك عن الألذ لسائر البهارات التي ستعانق وصفات الأكلات الرمضانية الأصيلة، التي تزورنا مرة في العام مستعرضة أنواعها ومذاقها طيلة ثلاثون يوما.

 سرّ محبة العائلات الجزائرية للتوابل، وعن قدرة الأسر الجزائرية التخلي عن راس الحانوت وأخواته في رمضان، أسئلة طرحتها «الشعب» أثناء جولتها الاستطلاعية على بعض المواطنين المارين بين أسواق التوابل ولواحقها من الأعشاب العطرية.

أجــود التوابـــل.. المهمـة الصعبــة

كشفت المواطنة الحاجة الزهور لـ»الشعب» عن اقتنائها مختلف البهارات لكل طبق رمضاني ينتظر اللمسة السحرية منه، كما إرتأت أن تفصل بحرارة في المهمة المستحيلة التي تستدعيها رحلة البحث عن ذلك المكوّن الذي يجعل «الماكلة بنينة» على حدّ قولها، حيث قالت في هذا السياق: «مهمتي قبل رمضان هو التوجّه إلى أسواق التوابل لأقتني حاجتي من بعض الأنواع، وهي مهمة ليست هينة كما يعتقدها البعض، فهي ليست مجرد شراء فلفل كحل أو راس الحانوت أو القرفة المطحونة والسلام، بل تعتمد على اختيار التابل الحقيقي من غيره، والمعروف بمذاقه الأصلي، وبما أنه لا يمكننا أن نتذوّق البهارات في شهر رمضان أثناء عملية التبضع، فإننا نستغل فترة ما قبل رمضان بخمس عشر يوما على أكثر تقدير، لنتمكن من معرفة ما هو البهار الأنسب سواء من خلال ملمسه بالإضافة إلى رائحته ناهيك عن نكهته».
أما راضية - ن، فعبّرت عن رأيها في عملية التنقيب عن الجودة في أي نوع من البهار قائلة: «تعودت في صغري الذهاب مع أمي لسوق التوابل ولم يقتصر هذا على الأسواق القريبة من المنزل، بل نضطر في كثير من الأوقات الى التنقل لولايات مجاورة لنقتني أجود التوابل التي نجدها عند أقدم الأسواق الشعبية الشهيرة ببهاراتها الرائعة، ولقد سبق لنا وانتقلنا فجرا من الجزائر العاصمة إلى بسكرة لنشتري صاحب الشرف راس الحانوت الأصلي الذي يحتوي على مجموعة من البهارات هي التابل والكروية والزنجبيل والقرفة والفلفل الأسود والكركم وشوش ورد، وهناك من يقول بأن رأس الحانوت الذي له تسميات عديدة يتكون من 21 مكونا في حين هناك من يجزم بأنه يتكون من 33 بهارا من بينه 7 أنواع من الأعشاب العطرية المعروفة باسم «الحشاوش».

«أشري ومـا تندمــش»

خلال جولتنا في مختلف محلات البهارات المتواجدة في أحد الأسواق الشعبية بالعاصمة، أسرتنا أشكال التوابل المعروضة بمختلف الألوان عند التاجر سعيد - ل، الذي كشف لـ»الشعب» عن سرّ مهنته التي تأخذ معظم وقته في شهر الصيام مقارنة ببقية أيام السنة قائلا: «كما تستعد الأسر لاقتناء لوازمها من التوابل، نستعد نحن التجار على توفير هذه المادة التي يكثر عليها الطلب قبل وأثناء الشهر الفضيل، حيث نقوم بفرز التوابل وترتيبها في عبوات مختلفة الأحجام  لنضعها بعد ذلك  في واجهة المحلات بشكل يشد انتباه الزبائن بجمال لونها وعبق روائحها، ففي كثير من الأحيان أشفق على ذاك الزبون الحائر أمام التوابل، وغالبا ما أتدخل لمساعدته حتى لا يضطر إلى رؤية امتعاض ربة البيت، ولا يعني عدم اكتراثي لتقديم الخيارات الإضافية للزبونات اللواتي قلّما أجد ما أمدح به عن أي نوع من العينات التي يتناولنها غير عبارة واحدة «السلعة تاع ليوم ماشي كل يوم.. أشري وماتندميش».
من جهته سافر بنا خالد - س، في حديثه مع «الشعب» إلى أقدم أسواق التوابل المحلية، حيث قال: «لا أستطيع تفسير عشقي لمنظر التوابل في الأسواق المعروفة بنوعيتها الجيدة، فلقد رزت أكثر من 28 سوقا في الجزائر، منها سوق بسكرة للتوابل وسوق تبسة للبهارات وسوق غليزان للتوابل والأعشاب العطرية، بالإضافة إلى السوق الشعبي العجيب للتوابل بوهران، وسوق الحشاوش والآلاف النكهات العديدة لخلطات راس الحانوت وغيرها من التوابل المشهورة في كلا من تلمسان وباتنة وغيرها، وجمعت خلال كل رحلة تقودني لسوق شعبي سواء كان سوق جملة أو تجزئة، معلومات مهمة عن عدة فوائد لأغلب التوابل التي يفضلها الجزائريون في أطباقهم الرمضانية».

ربمــا اللـون يفعلهــا أحيانـا.. لكن نكهة التوابــل لا تخطـئ أبـدا!

استوقف «الشعب» ر- ك، الذي كان تبدو عليه علامات التعجب وهو يسأل التاجر عن «الكركم» و»الزعفران»، وسأله هل بإمكانك أن تفرق بينهما؟، فأجاب قائلا: «هذه أول مرة أقوم بشراء البهارات التي كنت ولازلت لا أعرف أسماؤها جميعا إلا مكون واحد ألا وهو فلفل أسود والملح طبعا، وبحكم أنني متزوج حديثا، قررت أن أغامر في جولتي لشراء كلا من التابلين الذين سيبقيان المركبين المتشابهين تماما بالنسبة إلي، ولأحسم الأمر تشجعت هذه السنة مجبر أخاك لا بطل لأنهي قصة الاختلاط التي تعتريني عند مشاهدة كلا من «الكركم» و»الزعفران».
ودّعت «الشعب» المتحدث وهو يطلب من التاجر أن يضع له علامة لكلا من الكيسين، وهذا بعدما أخذ الموافقة من الطرف الذي كان يحادثه عبر مكالمة فيديو، والذي يبدو من خلال تعابير وجهه أنها زوجته بدون تخمين.

تاريـــخ التوابــل فـــاق جغرافيــة العــالم

في الزاوية المقابلة من بائع الكركم والزعفران طلب منا عمي رابح أن نساعده في اقتناء نوعية جيدة من الكمون والكراوية، وأن نشم بدلا عنه كلا المادتين موضحا لنا أثناء حديثنا معه بأنه فقد نسيبا حاسة الشم أثناء إصابته بفيروس كورونا، وقال بأنه حريص على اختيار كلا المكونين نظرا لما يحتويانه من فوائد صحية تساعد الجسم خاصة في شهر رمضان على إفراز السموم وكذا تليين غشاء المعدة، وليس هذا فحسب بل قدم لنا فائدة تاريخية حول رفيق الأطباق الرمضانية التوابل حيث قال: «منذ بداية اكتشاف التوابل ظهر تأثيرها الواضح على الأحداث في العالم، فلقد كانت سببًا في التقاء ثقافات مختلفة ومنافسة لحضارات أخرى، كما أنها أحدثت تغييرات واضحة على عادات الشعوب ووضعهم الاقتصادي».
وعرّج المتحدث في سياق كلامه على محطة تاريخية اختصر فيها بعض المعلومات عن التوابل، موضحا: «قبل القرن الخامس عشر، كان العالم يملك موارد محدودة من التوابل تقتصر على مناطق معينة من العالم مثل جنوب آسيا وشرقها وشمال إفريقيا والشرق الأوسط، حيث كانت تُعرف هذه الدول بأغنى الأماكن بالبهارات الملونة والمنوعة والتي لم يكن يقتصر استخدامها على الطعام فقط، بل كانت تستخدم لصناعة العطور وتحنيط الموتى والحفاظ على اللحوم، كما أنها كانت ضرورية في بعض الوصفات العلاجات والطبية».
وعن أشهر التوابل التي تمّ اكتشافها قبل أكثر من خمسة قرون كشف عمي رابح: «نجد القرفة والقرنفل وجوزة الطيب والفلفل وكانت تعتبر الأكثر أهمية في ذاك الوقت، بل كانت بعض الدول تقطع محيطات وتبحر لأسابيع طويلة بحثًا عنها، مع العلم أن حققت ثروات طائلة لتجارها، وكان يُدفع بقيمتها الإيجار كما تقول بعض الروايات».
انتهت جولة «الشعب» عند هذا الحد من التصريحات التي تنوعت بين الاهتمام والعشق بل عانقت صفحات التاريخ المليء بالمعطيات حول هذه التركيبة التي تتنافس القارات على انتاجها بأجود أنواعها، في حين يبقى شغف الأسر الجزائرية لتوفير مادة التوابل وبقوة خلال شهر الرحمة، الذي وبقدر ما يحمله من أجواء استثنائية سواء من الجانب الديني أو الاجتماعي، لا يمكن الاستغناء عن «راس الحانوت» أو «اللَّفاح» وسائر التوابل الأخرى التي تتربع على عرش مملكة المطبخ الجزائري الرمضاني.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19468

العدد 19468

الأحد 12 ماي 2024